الجمعة، 9 مايو 2008

عن مسعد أبو فجر، الروائى و السجين السياسى




لم أتعرف على مسعد أبو فجر، إلا بعد قراءة روايته الأولى طلعة البدن. و التى أظن أنها أول رواية مصرية تكشف كل هذا القدر من المسكوت عنه، اجتماعيا و سياسيا عن بدو سيناء، و علاقتهم بباقى الإخوة المصريين، أو الفلاحين، كما يقول البدو.

الرواية ليست نقة نوعية فى تاريخ الكتابة الأدبية، من ناحية، و لكنها أيضا ليست رغى و وجع دماغ ع الفاضى. الرواية معندهاش بنية محكمة، بس الحكايات اللى بتتداعى فيها تستحق التأمل و التوقف عندها.

قابلت مسعد بعد ما قريت روايته، و كتبت عنها فى أخبار الأدب، فى ندوة ميريت، و قابلته بعدها بالصدفة مرة واحدة بس على قهوة التكعيبة، و كان يبدو دائما غاضبا ناقما، يشعر و كأن هناك حريق يشتعل فى مكان ما، و لا أحد يفكر فى النهوض لإطفاء النار.

مسعد الآن معتقل منذ ما يزيد عن العام، بسبب ممارساته السياسية، التى هي عيب و حرام جامد جدا، عموما، و خصوصا فى مكان له حساسية خاصة زى سينا.

تعالوا ما ننساش مسعد، و كل اللى زيه، روائيين أو حتى نجارين مسلح، معتقلين بسبب أنشطتهم السياسية أو حتى لمجرد الاشتباه،أو لأنهم غلطوا و محلقوش دقنهم كام يوم.

المقال التالى عن رواية مسعد، هو اتنشر قبل كده، قبل ما مسعد يبقى فى طى النسيان.

طلعة البدن رواية مسعد أبو فجر:
بين مأزق الروائي و هواجس القارئ


· يجد الروائي نفسه في مأزق ، حين يعمد إلى تقديم عالم جديد نسبيا على القارئ ، و غريب بالخصوص على فضاء الرواية المعهود : فهو من ناحية يستشعر بفرح بكارة و جدة الواقع الذي يوشك على مقاربته ؛ غير أنه من ناحية أخرى لا يود أن يسقط في فخ هذه البكارة نفسها، لاعبا دور المرشد السياحي للقراء المستعدين سلفا للدهشة إزاء كل ما هو غرائبي ( exotic) و مفارق.
· لابد أن هواجس من هذا القبيل ستطوف بك عند انتهائك من قراءة رواية مسعد أبو فجر، الصادرة حديثا عن دار ميريت. صحيح أن الرواية تعتمد في مادتها الخام على عالم بدو سيناء ، الذين كثيرا ما وجدوا أنفسهم طرفا ثالثا في حروب لا شأن لهم بها، و كثيرا ما دفعوا ثمنا غاليا لمجرد وجودهم في فضاء شديد الحساسية سياسيا، لكنها لا تكتفي بهذا المصدر على المستوى الأيقوني الجمالي ، و بالطبع لا تقدمه باعتباره فولكلورا ، كما أنها لا تدين التقاليد البالية و التعصب القبلي و السلطة الذكورية ، و إلى آخر قائمة المثالب المرتبطة غالبا بهذا النوع من الأدبيات . لكن ماذا تحاول الرواية تقديمه بعد استبعادها لتلك الدروب المعبدة و السهلة ؟ لعله سؤال آخر من بين تلك الأسئلة التي سوف تراودك بعد القراءة!
· منذ الصفحات الأولى ستجد نفسك في قلب متاهة من الأسماء و الحكايات الصغيرة المنجزة قبل ولادتك كقارئ، و يكون عليك أن تفض تشابك الفروع و الأغصان لتشق سبيلك على أمل اتضاح الرؤية بعد قليل. الراوي الذي يتغير من الراوي المشارك ، ربيع ، إلى الراوي الغائب العليم بعد قليل ، لا يبخل على قارئه بالكلام الشخصي الحميم، كلام صديق لصديق حول نار في صحراء ، كلام يقصد به أساسا الرغبة في الاستمرار في الحكي، لأطول وقت ممكن، ربما تتضح الرؤية، و لا مانع عندئذ من اللجوء إلى صفحات التاريخ ( الرسمي الموثق ) من أجل إضاءة بعض جوانب الحاضر ، و مصائر الشخوص في تقاطعها مع حكايات القادة و أمجاد الحروب. و تتابع الحكايات الصغيرة في نسيج لوحة فسيفساء هائلة بلا أول أو آخر، تمتد في الزمن و المكان: في الزمن حتى الملك سنفرو الذي يجثو أمامه أحد البدو في لوحة بالمتحف المصري، و ربما قبل ذلك ، و تمتد في المكان نحو المطارح التي انتهى إليها البدو بإرادتهم أو رغما عنهم ، بين اسرائيل و الأردن و ليبيا .

· و طالما اعتصم السرد بحبل حكاية ما هاهنا فهو يمضي بلا تعثر، فنرى الجملة الفعلية متدفقة الحركة تقدم المشهد بأبعاده و الشخصيات بسرائرها دون نتوءات، و يكاد يغيب تعليق الراوي إلا عندما تنتهي حكاية ما ، يعود الراوي ليفتح قوسا جديدا، أو ليتذكر شيئا فاته ، دون أن يجد أية غضاضة في الإفضاء إلى قارئه بنواياه، و هو في غنى عن أن يحدثه حديث الصديق للصديق. و قد لا يكون لأغلب الحكايات صلة وثيقة ببعضها البعض، فهي لا توضع في خدمة سياق منسجم من الأول للآخر، و كأن كل حكاية تنطوي على أهميتها الخاصة دون أن تندمج بغيرها، مثل البدوي الذي يشبه بدوره حبة الرمل التي تمر بها الدهور دون أن ( تندمج ) بسواها . كما يتكاثف بداخل كل حكاية نوع من تاريخ للبدو، ذلك التاريخ غير المكتوب الذي يتجسد في لحظات يومية و طقوس بسيطة يمارسها حاملوه دون وعي، و تتكرر و تدوم ماداموا هم، من قبيل طقوس عمل الشاي و إعداد رغيف خبز من الماء و الدقيق وسط الصحراء ، أي بعيدا عن مضارب القبيلة ، و قد وصفت هذه الطقوس بالتفاصيل نفسها تقريبا مع حكاية القطيفي و مع مشهد عساف ، و هو واحد من الأصدقاء الثلاثة الذين يتمحور السرد حولهم، حين خرج للصيد مع عودة و مصلح، و ذلك بالطبع بعد مرور سنوات كثيرة من مأساة القطيفي مع السلطة و جنونه، و لعلها تجد جذورها قرب نهاية الرواية عند أبي زيد الهلالي في حكايته مع أبناء أخيه ثم أبناء أخته . و يظل الراوي حتى النهاية تقريبا ، يرجئ القول الفصل ، و يلجأ لآليات من قبيل: انتظر قليلا ، اصبر علي ، سأخبرك فيما بعد، بعد أن أنهي هذه الحكاية ، و يفتح قوسا ليغلقه بعد صفحات، و كأن الرواية كلها هوامش عديدة على متن الحياة التي تعاش و تنقضي و خلاص، أو كأن الدائرة لا تكتمل أبدا، و يظل المعنى على هذا مرجأ ، إن كان ثمة معنى نهائي وراء هذا كله، فالمعنى بوصفه حكما نهائيا و حاسما ، من النوع الذي لا يعتمده السرد هنا ، بالضبط كما تنتهي الرواية و عساف ينظر إلى ساعته و يقلب الراديو بين محطتي البي بي سي و مونت كارلو، بعد أن اختطف، غاليت الرومانية ، لكي تفرج السلطات المصرية عن صديقه عودة.
· الحكاية الوحيدة التي تتفرع عنها شجرة الحكايات ليست حكاية بالمعنى المتعارف عليه، بقدر ما هي تتبع لتحركات ثلاثة من الأصدقاء من بدو سيناء، و خلفيات حياتهم و أسرهم و علاقاتهم المتشعبة داخل و خارج القيبلة. في محاولة شجاعة لتعريف معنى البداوة، دون الإيهام بأي حياد معرفي زائف، بل بضرب من التورط و الانحياز الإنساني قبل كل شيء آخر : ربما في مواجهة مع كل المقولات الشائعة التي وضعتهم خارج إطار الهوية المصرية المزعومة ( بمعناها الرسمي الخطابي البائس في توهم نقائه ) من نوع أنهم هم من اشتروا الأسلحة من الجنود المصريين مقابل شربة ماء و انتهاء بعمالتهم لإسرائيل ، تلك الاتهامات الجاهزة لدى جميع ( المصريين ) في الرواية ، سواء من رجال الشرطة أو الأستاذ الجامعي ، و يتم التأكيد في المقابل على القيم الإنسانية النبيلة التي تقوم عليها حياة البدوي، مثل استعداده لتقديم حياته ثمنا لحريته، بينما الفلاح مستعد لتقديم حريته ثمنا لحياته. لكن الرواية لم تتورط في سؤال الهوية على مستوى السرد تورطا يستحق التوقف عنده ، ربما لأنه ليس سؤال البدو، أبطال عالمها، إلا عندما يخرج واحد منهم عن نطاق الجماعة طلبا للعلم أو للمال، فيصطدم بنظرة الآخر له، هو الذي يحمل بداوته في داخله كتاج من التميز و التفرد، و قد يصير عندها على التخوم في نظر الآخرين من البدو ، مثل عودة ، الذي يجد أنه في علاقته بكوكب الزهرة يحتفي ببداوته على طريقته الخاصة، ذلك الكوكب الذي عبده أجداده ، يحتفي ببداوة أخرى بعيدة كل البعد عن مجلس شيخ القبيلة الذي يعتبر الجالسين فيه مجرد عدد. و هنا تتحول الهوية البدوية، إلى شيء أكثر خصوصية، قد يتماس معها بحكم الإرث الطبيعي الذي يجري مجرى الدماء ( الختم على جبهة ربيع لن ينمحي ، تاركا أثر الأسطورة على بدنه ، ). لكن سبيل التوصل إلى ذلك الشيء الأكثر خصوصية لا مناص يمر بكل المنعطفات التي يشكلها فخ الوجود كإنسان، في نسيج من الزمان و المكان و العلاقات و الأحداث و الأصول و الفروع . مما يصل بنا إلى الاقتباس الجميل عن بيسوا قبل بداية الرواية: " أتلمس تقاليد بارزة فيّ قبل الزمان و المكان و الحياة و الوجود..."
· و بكلمة ، تستحق هذه الرواية أكثر من قراءة : قراءة متورطة، و أخرى محايدة، و قراءة مغرضة ربما، و غيرها...و لم تكن قراءتي لها إلا من النوع الخاطف المبدأي و الانطباعي بالأساس. لأكتشف بعد الانتهاء منها أنها لم تتركني أكثر اطمئنانا أو يقينا، لدرجة أن أشعر أن ما رأيت فيها من عيوب سردية في البداية صار هو نفسه أهم نجاحاتها، بالنسبة لي طبعا، لأنها خدعتني ذلك الخداع المحبب، فحولتني بعيدا عما كنت أتوقع و أحب و أرجو.

الأحد، 4 مايو 2008

جنينة الأسماك


كنت ناوى أكتب عن عيد ميلاد واحد صاحبنا، بس تراجعت ف آخر لحظة و قلت لا يا واد، خلى المدونة للفن و الأدب و الحاجات التافهة دي و خلاص، و أوعاك تنزل لمستوى السياسة و الكلام الكبير اللى يودى ف داهية.
ما علينا، كالعادة معظم المثقفين و النقاد اللى بيفهموا عجبهم فيلم جنينة الأسماك، يمكن لأسباب مختلفة، و كالعادة ف الحوارات الللى عملها يسرى نصر الله فى الجرايد اضطر يشرح نقط معينة ف الفيلم، زي مثلا إن الشخصيات الثانوية هى اللى بتكسر الإيهام، و تتكلم عن نفسها بصراحة، على عكس شخصية هند صبرى و عمرو واكد، لأنهم محبوسين دوا نفسهم، و كأن كل الشخصيات التانية دى متحررة و لا خايفة و لا نيلة، و إن حتى صاحبة هند صبرى الثورية شوية مش ممكن تكون متنيلة محبوسة جوه قناع خنيق زي قناع المذيعة الانتهازية صاحبتها. بصراحة كلام مش مقنع.
أنا عن نفسى بأحب تقنية كسر الإيهام، بس بأحبها أكتر لما يكون فيه إيهام أصلا، يعنى حدوتة من نوع ما، و لو غير تقليدية، و لو عبارة عن مجموعة من مشاهد بيربطها خيط واهى للغاية، لكن لما مابيبقاش فيه حدوته أصلا، و الشخصية من دول بتطلع ف مشهد عادى لمدة دقايق عشان بعد كده تبص للكامريا و تتكلم عن شخصيتها فى الفيلم، اللى مالحقتش تبان من الأساس، يبقى فيه حاجة مش مظبوطة، و يبقى السينما الرواية بتنفسن و بتحقد على السينما التسجيلية لقدرتها العظيمة على رصد العالم زي ما هو من غير أقنعة.
أنا مش ناقد سينما، بس بأحب السينما، و بأحب أفلام يسرى نصر الله خصوصا: المدينة و سرقات صيفية أكتر اتنين بأحبهم. بس من حقى أسأل هل ممكن نرصد العالم زي ما هو، من غير ما نزيفه، أو نجمله، أو نشوهه، أو...أو...أو...، من خلال الوعى اللى بيقوم بعملية الرصد دى نفسها.
أكتر جزء عجبنى فى الفيلم هو حكاية الأميرة اللى حبت عصفور، و أعلنت حبه للناس كلها، حتى لو اعتبروها مجنونة، بس بعد ما فات الأوان للأسف. الحدوتة نفسها عجبتنى، و طريقة تنفيذها على نمط السينما الصامتة و الأبيض و الأسود كانت تجنن.

بأعترف الفيلم شغللى دماغى، و عجبتنى هند صبرى و عمرو واكد جدا، هند فى مشهد العيادة لما بتمسح ماكياج وشها كانت غير عادية. حتى سماح أنور كانت جامدة جدا فى المشهد بتاعها، و جميل راتب عالى ، و أحمد الفيشاوى شغال جدا.

السؤال اللى واقف ف زورى هو إذا كان ناصر عبد الرحمن فعلا سيناريست موهوب و جميل، ليه الواحد لحد دلوقت مش قادر يحس بطعم خاص لكتابته، و ازاى كتابته بتقدر تتشكل عشان تناسب مخرجين مختلفين جدا زى خالد يوسف بميوله العنيفة فى تشريح جسم المجتمع، و يسرى نصر الله صاحب الفلسفة البصرية الراقية. هل ده معناه شطارة و لا إنه مجرد دراماتورجى مهاود، بيعرف يعوم على عوم المخرج؟ الله أعلم.

متأكد إن رأيي ف الفيلم هيتغير مع مشاهدتى ليه أكتر من مرة، و لأن ده حصللى قبل كده مع أفلام مهمة كتير. بس اللى متأكد منه إن يسرى نصر مخرج خارج سياق المنافسة التجارية القذرة، قادر يعمل أفلام تعيش و تتشاف عشرات المرات. أنا بأحب الراجل ده!